كطائرٍ كاسرٍ
يفتحُ الموتُ جناحيْهِ العظيمين
ويُنشِبُ مخالبَهُ بكلِّ عنفٍ
في التّناسقِ الحريريِّ
مُغطّياً الأمواجَ السّماويّةَ اللّونِ
بظلالٍ فضيّةٍ مُضيئةٍ.
طائرُ الموتِ ذو النّظرِ القاسي
يَفْري بجناحيه الطّويلين المتسكِّعيْن
زرقةَ مرآةِ الموجةِ الهوائيّة
ثمّ بحركةٍ جَنْبِيّةٍ
يرتدُّ إلى السّمواتِ العليا
التي قُدَّتْ من البرُنْزِ
تاركًا روحي شريدةً
تسبحُ لفترةٍ فحسبُ
لفترةِ هُدنةٍ مع الحياةِ
للحظةٍ قصيرةٍ
أنجو فيها من الموت
قبل أن يُسدلَ اللّيلُ
سُدُولَهُ القاتلة
كانت البجعةُ تفري الماءَ مَهِيبةً جميلة
وكانت النجومُ تنهض من نومها في الغروبِ
هاتكةً شيئا فشيئا حجابَها الضّبابيّ
وكان الملاكُ في السّمواتِ كأنه يبارك سيولَ الماءِ
كانت حوافرُ الخيولِ تُسمعُ من بعيدٍ
وقد آل الأمرُ بوقعِ ركضها في المساءِ الخريفيِّ
إلى الاحتضارِ هو وخطاها العاصفةُ
في السّكونِ الأزرقِ
سكونِ ليلةٍ لا مقابرَ فيها
كانت البجَعةُ البيضاءُ تسبحُ على وقعِ القمرِ
الذي يسحرُ غناؤه الأنيس ذو النغمات المتناسقة
الموجة المطمئنّةَ ويغمرُها بالمطلقِ
كانت الدنيا غارقةً في النومِ وسطُ تناغمِ أشقرَ
تناغمِ راحةٍ مُستعادةٍ تؤجِّلُ إلى غدٍ
جحيمَ الذّكرى وسلاسلَها وسمومها
إنّ أوّلَ ملاحظةٍ تَعِنُّ لقارئِ هذه القصيدةِ التَّرْجَذاتيَّة ( نسبة إلى التّرجمة الذّاتيّة )المكتوبة بلسان المتكلّم هي أنّ صاحبتها – وقد عوّدتنا شكليّا على كتابة القصائد المتوسّطة الطّول – قد أحسّت هذه المرّةَ بالحاجة إلى النّوع المفرط الطول ( ثمانون بيتا ترجمنا منها هنا أربعا وثلاثين) . ومردُّ هذا التّغيير إلى أنّ الشّاعرة تروم تقديم صورة تأليفيّة لمسيرتها الشخصيّة في عهد الكهولة. وهي تتألّف، حسب أقوالها،من مرحلتين متباينتين : كانت سمةُ الأولى سوءَ الحظّ وقساوةُ القدر وفي الثّانية التي تتواصل حتّى اليوم وجدت السّعادة والسّكينة .هذا التّقسيم الواضح لمسيرة المتكلّمة قد أعانها على حسن معالجة نصّها فنّيّا .وهو ما لاح خاصّة في استخدامها على نحو متزامن أسلوبين أساسيْن : التّقنية الزّمنيّة والاستعارة .وهكذا فلإبراز فظاعة المرحلة الأولى والفصل بينها وبين الثّانية وظّفت رمز طائر الموت والومضة الورائيّة ، على حين اختارت في الثّانية التي قدّمتها على أنّها طافحةٌ هناءً وسعادةً رمزا ضديدا هو البجعة والزّمن الحاضر لا بالمعنى التّصريفيّ بل بالمعنى الواقعيّ الإجرائيّ.والملاحظة الثّانية هي أنّ معظم الأحداث المرويّة تدور في باطن المتكلّمة .وهو ما جعل القصيدة تتنزّل في اللّون النّفسانيّ وتقدم للقارئ ضربا من التّحليل الذّاتيّ الاستبطانيّ يغوص أولا في الحافظة لاستنهاض الذّكريات المظلمة الأليمة التي تؤلّف في مجموعها كابوسا ثقيلا ثمّ في العقل اليقظ لوصف ما تحسّ به الشّاعرة من هناء وطمأنينة في زمن التلفّظ . إنّها قصيدة فائقة الجودة ترسم بأسلوب يبعث على الإعجاب مرحلة مهمّة من مسيرة الشّاعرة في الحياة وتأسر القارئ العِرِّيف بصورها المبتكرة وبالشحن العاطفيّة التي تختزنها كلماتها.
أضيفت من قبل
admin
كتابة تعليق
كتابة تعليق
لا تعليقات حتى الآن