13614945_302312596775265_219572852126060730_n

 

فجرٌ شِتْوِيٌّ.
الأشجارُ ترفعُ أغصانَها الباهتةَ جدًا، ذاتَ اللّونِ المنطفئِ ،كما لو أنّها أذرُعٌ تمتدُّ لتتوسّلَ، لتطلبَ النِّجدةَ.
*
فجرٌ شِتْوِيٌّ.
في النّوافذِ الأضواءُ المُربّعةُ تميل إلى الانطفاءِ، تذوبُ شيئًا فشيئًا في الصّقيعِ الرّماديِّ، الصّوفيِّ الملمسِ، ذلك الصّقيعِ الذي يلحسُ المدينةَ وسُقوفَ المعهدِ الثّانويِّ القديمِ.
*
قريبًا ينزلُ الثّلجُ.
لونان : لونٌ رماديٌّ، جامدٌ، متكزِّزٌ،أسودُ معدنيٌّ، أسود مُنْحَنٍ.
عالَمٌ يصطدمُ في رفضه المفاجئِ ، الوعِرِ،النّهائيِّ إنجابَ نوعيّةٍ أخرى،ألعابٍ لونيّةٍ أخرى.
*
فجرٌ شِتْوِيٌّ.
أشجارٌ معذّبةٌ، قُطنيّةٌ،أذرعٌ ممدودةٌ، باقاتٌ من أفواهِ أقنعةٍ اغريقيّةٍ .
باقاتٌ تهدّدُ بإحداثِ فوهاتٍ مأسويّةٍ. ما هو فحوى صراخِها؟ أيَّ صراخٍ تثبِّتُ؟ ما الذي يُثْقبٌها؟
*
في هذه الأشجارِ شيءٌ فاسدٌ يشفَطُني.أيديها المتوسِّلةُ تخفُرُ السِّردابَ وقد تخلّلتها عيونُها الرّهيبةُ، عيونُ الهاويةِ،عيونُها الفظيعةُ ، العيونُ الفوهاتُ التي ترصدُها.
سَمْعي يشيرُ إليَّ أنّ ثمّة نعيقا قويًا يخترقُ الهواءَ.لكن فوجئتُ بعدمِ وجودِ أيِّ غرابٍ ظاهرٍ للعيانِ.
و إنّه ينبغي الاعتقادُ أنّ المهاوي مزعجةٌ حتّى للغربانِ. 
*
ثمّةَ شيءٌ خصوصيٌّ في هذه الأشجارِ. لا أدري حقّا لماذا.لكنّها تلوحُ لي كأنّها نبتاتٌ آكلةٌ للّحومِ:يتراءى للنّاظر أنّها تنفتحُ مثلَ تُوَيْجاتٍ مغمومةٍ ، مثلَ أنيموناتٍ بحريّةٍ جمّةِ الأسرارِ، لونُها العاري مزيجٌ من لونيِ الطّبشورِ والرّمادِ.
في أعالي هذه الأشجارِ حزامٌ من الأغصانِ يحيطُ بعُشِّ، بفضاءٍ، بتباعدٍ مكشوفٍ، محدَّبتُه قليلاً بدايات ظهورِ بصَلاتِ الزّهورِ و نتوءاتٍ مقبّبةٍ من اللّحمِ الشّاحبِ أو ،بعبارةٍ ربّما تكونُ أدقَّ ،فاقدةٍ للونِها على نحوِ ما تكونُ عليه اللّحومُ الميّتةُ ، لحومُ الجثثِ تلك التي تُودعُ في المَشْرَحةِ وتكونُ بيضاءَ على نحوٍ يبعثُ على الأسى.
وبالإضافةِ إلى ذلك في وسطِ العشِّ بالضّبطِ ،في انتفاخِ اللّحمِ الميّتِ التّخرُّقاتُ والمهاوي التي وصفتُها منذ حينٍ والتي أخذ سوادُها ينبِضُ.
ولكنْ للمطالبةِ بأيِّ إتاوةٍ؟

 

تعليق محمّد صالح بن عمر :

 

  أنّ الأجواء الموحشة والموحية بالرّعب  التي تصوّرها  الشّاعرة في هذه القصيدة  تسم ،في الحقيقة، المعظم الأغلب من نصوصها الشّعريّة . وقد  أرجعناها  في مقالات سابقة  إلى سبب محتمل هو أن تكون صدى لاواعيا بعيدا في الزّمن  لنزول مؤلم من رحم الأمّ إلى المحيط الخارجيّ على إثر ولادة عسيرة.وتفسير ذلك أنّ المولود عند خروجه من الرّحم الذي هو لديه بمنزلة الجنّة الضّائعة ، على حدّ ما ذهب إليه سيقمون فرويد،يحسّ منذ اللّحظة الأولى بصدمة عنيفة ورعب شديد لوجوده فجأة وحيدا في عالم مختلف تماما عن الذي اعتاده . فما قولنا  – والحال هذه – حين  تتسبّب له عمليّة الإخراج ،فضلا عن ذلك ،في رضوض وأوجاع جسميّة ؟  والدّليل هنا على مدى عمق الآثار النّفسيّة البالغة التي تخلّفها  تلك العمليّة في ذات المرء طيلة حياته أنّ الشّجرة التي هي كونيّا رمز إيجابيّ ، لكونها من حيث بنيتها التّكوينيّة تجسّد صورة  مثاليّة للسّلام  والتّناسق والتّوازن بين الأرض والسّماء تتحوّل فجأة إلى شبح يتجمّع فيه الإيحاء بالهزال والألم والرّعب وحتّى الموت .وهو ما قد يدلّ على أنّ الأمر لا يعدو أن يكون  هنا عمليّة انعكاسٍ لذات جريحة تنخرها ألوان شتّى من الرُّهابات والوساوس على تلك النّبتة التي تجسّد في الأصل الحياة بكلّ ما تنطوي عليه من روعة وبهاء والتي لم يثر حتّى عراؤها العابر في الخريف البتّة  مثل تلك الأحاسيس السّلبيّة. طبعا لسنا هنا إلاّ بصدد القيام بمحاولة في تحليل هذا النّصّ ولا نيّة لنا على الإطلاق في محاكمة الشّاعرة التي من حقّها – وهي المبدعة – أن تختار للشّخصيّة المتكلّمة في قصيدتها ( الأنا الأنثويّ في النّصّ ) البنية نّفسيّة التي تشاء ، إذ الأهمّ في هذا المجال هو التّجسيم   الفنّيّ للأفكار المقصود إبلاغها وهو ما نجحت فيه إلى حدّ بعيد ولتتأكّد من ذلك يكفيك أن تتأمّل تلك السّلاسل من الصّور المربكة التي تتوالى من بداية النص إلى آخره نحو :     

الأشجارُ ترفعُ أغصانَها الباهتةَ جدًا، ذاتَ اللّونِ المنطفئِ ،كما لو أنّها أذرُعٌ تمتدُّ لتتوسّلَ، لتطلبَ النِّجدةَ  – أشجارٌ معذّبةٌ، قُطنيّةٌ،أذرعٌ ممدودةٌ، باقاتٌ من أفواهِ أقنعةٍ إغريقيّةٍ  – باقاتٌ تهدّدُ بإحداثِ فوهاتٍ مأسويّةٍ. ما هو فحوى صراخِها؟ أيَّ صراخٍ تثبِّتُ؟ ما الذي يُثْقبٌها؟ – في هذه الأشجارِ شيءٌ فاسدٌ يشفَطُني.أيديها المتوسِّلةُ تخفُرُ السِّردابَ وقد تخلّلتها عيونُها الرّهيبةُ، عيونُ الهاويةِ،عيونُها الفظيعةُ ، العيونُ الفوهاتُ التي ترصدُها.

 

 

 

أضيفت من قبل

admin

أنشر

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *